كان للسيولة السياسية التي اتَّسم بها العالمُ الإسلاميُّ إبَّان العصر
الوسيط أثرٌ بليغٌ على حركات الانتقال السكاني، سواءٌ أكانت هجرة دائمة أم
ارتحالًا مؤقتًا؛ فلم تكن تُثير ما دأبت الدولةُ الحديثةُ على إثارته من النَّعَرات
القومية، بل كانت «دارُ الإسلام» تهيِّئُ للمسلمين فُرَصَ الهجرة من بلد إلى آخر
في حرية تامة؛ بوصفها وطنًا واحدًا متصلًا لا تقوم فيه الحواجزُ الجغرافية أو
السياسية دون أفراد المسلمين، وإن تصادمت أهواءُ الحُكَّام وتباينت أغراضُ السياسة
بمآربها ومنافعها.
وكانت حركةُ الهجرة تتجه تلقائيًّا صوب مركز القيادة السياسية والحضارية
الذي بدا من الطبيعي أن يتغيَّر من دولة إلى أخرى، وأن ينتقل من إقليم إلى آخر،
على وفق تبدُّل الأوضاع وتغاير الظروف التاريخية؛ فكانت دمشقُ مركزًا لهذه القيادة
تارة، وتمتعت به بغدادُ تارة أخرى، ثم انتقل إلى القاهرة/دمشق بقيام دولة المماليك
منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) تارة ثالثة. وقد بدا هذا
الانتقالُ الأخيرُ وثيقَ الصلة بنجاح دولة المماليك (648- 923هـ/1250- 1517م) في
حماية الاستقلال السياسي للشرق الأدنى (مصر والشام والحجاز)، وعِصْمته من الوقوع
في براثن الغزو المـُغُولي، وبما تهيَّأ لها من مقومات الجذب السكاني ما لم
يتهيَّأ لغيرها من دول المشرق؛ فآثر الهجرةَ إليها كثيرٌ من المشارقة الذين تباينت
أصولُهم الجغرافية وتنوعت انتماءاتُهم العِرْقية وتعددت فئاتُهم الاجتماعية، وتركوا
في رحابها على تمادي الأجيال من الآثار السياسية والحضارية ما سجَّلته مصادرُ
التاريخ تسجيلًا لا تعوزه كثرةُ الأدلة وقوةُ البراهين.
لقد كانت دولةُ المماليك تمثِّل لثقافة المشرق الإسلامي أواخر العصر الوسيط
سفينة النجاة، أو قُلْ «سفينة نوح»؛ إذ هيَّأت لهذه الثقافة ملاذًا آمنًا حافظ
عليها وعصمها من الاندثار بعد أفول مراكزها الكبرى في العراق وإيران وبلاد ما وراء
النهر.