لأن
الغزالي كان ولا يزال واحدًا من أهم العلماء المؤثرين في تاريخ الفكر الإسلامي،
وذلك لسعة الرُّقعة المعرفية التي ترك فيها الغزالي أثرًا، وللتقلبات التي ماجت به
حتى نضجت نظريته المعرفية، وتصوره العملي، وهو ما يسميه المؤلف «بارادايم الغزالي»،
يعبِّر بذلك عن نظرية «العمل» عند الغزالي باعتبارها «نموذجًا معرفيًّا- Paradigm»
شاملًا، ينتظم دستوره الفكري وحياته العلمية ومراسه الاجتماعي كاملًا، وعن الغزالي
من حيث هو تحوُّلٌ في النسق الكلامي السني.
ومن خلال
قراءة متون أبي حامد والانغماس فيها، يظهر تهمُّمه واهتجاسِه الكبير بقضية
«العمل»، مما يدل على أنَّ السِّمةَ المركزية التي تختلب وجدان هذا المفكر المسلم،
والمتكلم السني، والفقيه الديني، والتي كان يدندن حولها وتشغله طيلة حياته، ويسوق
الكلام لأجلها في جملة متونه وخطاباته، هي سمة «العمل».
فيسعى هذا
البحث إلى تقديم قراءةٍ ثانية في المشروع الغزالي، منعزلةٍ قدر الإمكان عن
النقاشات التي جرت في القرنين الأخيرين حوله، ومستحضرة لها في الوقت ذاته.
أما
الانعزال عن هذه الدراسات، فلكي نفهم مشروع الغزالي كما هو، لا كما تُلقِّي عند
أنصاره ومخالفيه، وأما الاستحضار، فلكي نشارك في هذه الحوارات المعرفية، نقدًا،
وأخذا، ولا ننفصلَ بالكلية عن عوائد الكتابة العلمية وطبيعتها التراكمية، بل إن
الباعث على بحثنا هو هذه الدراساتُ نفسُها، إذ من خلال قراءتنا وإعادة افتحاصنا
لإرث الغزالي، وجدنا هوة سحيقةً، بين الغزالي الحقيقي، وبين الغزالي المتخيَّل عند
عدد من الدارسين.